Uncategorized

أسرة اهلا الشيخ سيديا اسرة المجد والصلاح والتواضع

آخر تحديث: أبريل 10, 2025

مقدمة: مدينة العلم ومهد العظماء

بوتلميت، تلك المدينة العريقة التي تقع شرق العاصمة نواكشوط بحوالي 150 كيلومترا، ليست مجرد نقطة على الخريطة الموريتانية، بل هي حاضنة العلم والثقافة والسياسة في البلاد. ومن بين كل ما يميز هذه المدينة التاريخية، تبرز أسرة أهل الشيخ سيديا كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، أسرة جمعت بين العلم والصلاح والمجد مع التواضع والإيثار، فكانت بحق أسوة وقدوة لكل من أراد أن يترك أثرا طيبا في هذه الحياة.

الجذور التاريخية: من الشيخ سيدي الكبير إلى باب

تعود جذور هذه الأسرة العريقة إلى الشيخ سيدي الكبير بن المختار بن الهيبه (1770-1868م)، ذلك العالم الجليل الذي أسس مدينة بوتلميت عام 1828م بعد رحلة علمية استمرت 38 عاما قضاها في طلب العلم من مختلف مراكز المعرفة في المنطقة . لقد كان الشيخ سيدي الكبير بحق “قطب زمانه ووحيد عصره وعلامة دهره الحبر البحر الفهامة، من أصلح الله به الأمة” كما وصفه المؤرخون .

لقد حول الشيخ سيدي الكبير بوتلميت من مجرد بئر ماء إلى حاضرة علمية مشعة، جعل منها “حرما آمنا لا يصلها خائف إلا أمن، ولا فقير إلا استغنى، ولا جائع إلا شبع” . وكانت زاويته مركز إشعاع فكري وثقافي وديني شمل البلاد كلها وتجاوزها إلى الأقاليم المجاورة، حيث أرسل مريديه إلى غامبيا والسنغال لنشر الإسلام .

ثم جاء حفيده الشيخ سيدي باب (1860-1924م) ليكمل مسيرة الجد، فكان عالما وشاعرا ومجددا إسلاميا، وصاحب رؤية سياسية تنطلق من محورية الأمن والاستقرار. لقد كان باب “رجل سياسة بارز أوتي الحكمة وفصل الخطاب” كما يذكر المؤرخون . وهو مؤلف كلمات النشيد الوطني الموريتاني الأصلي، مما يدل على مكانته الأدبية والفكرية الرفيعة .

خصال الأسرة: بين العلم والصلاح والمجد

1. أهل العلم والتربية

لطالما كانت أسرة أهل الشيخ سيديا منارة للعلم والمعرفة، فقد أسس الشيخ سيدي الكبير زاويته التي غصت بأفواج الطلبة من كل حدب وصوب . ثم جاء معهد بوتلميت الذي أسسه الشيخ عبد الله بن الشيخ سيدي بابه سنة 1956م، والذي تحول إلى أهم معهد علمي في البلاد كلها، واستطاع أن يمزج بين الدراسات المحظرية (التقليدية) والدراسات الحديثة .

لقد تخرج من هذه المؤسسات العلمية الآلاف من العلماء والفقهاء الذين نشروا العلم في كل مكان، وكان منهجهم يقوم على “الالتزام بالأصل والدليل والتعايش مع الواقع وعلاج مساوئه” كما كان حال الشيخ باب . ولا تزال المدينة حتى اليوم تتبوأ الصدارة من الناحية العلمية والثقافية بفضل إرث هذه الأسرة العريقة .

2. أهل الصلاح والورع

لم يكن علم هذه الأسرة مجرد معلومات تحفظ في الصدور، بل كان علما يترجم إلى عمل وسلوك. يقول هارون ابن الشيخ سيدي في كتاب الأخبار عن الشيخ سيدي الكبير: “كان هذا الشيخ المذكور آية من آيات الله في وقته حليما لا يزعزعه شيء كالطود الراسي… ولم يقع منه ما يقع من الصبيان ولم ينتقد عليه شيء كأنما فطره الله يوم فطره على الخير” .

أما الشيخ باب فقد عرف بمواقفه الإصلاحية ونبذه للتقليد ودعوته إلى الاجتهاد، حيث ألف كتابه المشهور “إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين” . كما حارب الفقر وحفر الآبار وعمم التعليم واهتم بإصلاح ذات البين بين القبائل، فكان بحق “أحد أساطين الإصلاح والتجديد في بلاد شنقيط” .

3. أهل الإيثار والتواضع

لطالما تميزت هذه الأسرة بكرمها وإيثارها، فكانت تفتح أبوابها للفقراء والضعفاء وطلاب العلم. يقول صاحب الوسيط عن الشيخ سيدي الكبير: “لم تزل الدنيا تنهال عليه ويفرقها بين الناس… وكانت شنقيط تجعله حرما أمنا يضم عنده آلاف الناس يطعمهم ويسقيهم ويقضي جميع مآربهم”.

وهذا الإيثار لم يكن مقتصرا على المال فحسب، بل شمل بذل الوقت والجهد في الإصلاح بين الناس، حيث تدخل الشيخ سيدي الكبير وافتدى أكثر من 30 مجموعة غارمة بماله وفض النزاعات، ولا تزال وثائق هذه الفداءات موجودة حتى الآن .

4. أهل المجد السياسي

لعبت الأسرة دورا سياسيا بارزا في تاريخ موريتانيا الحديث. فالشيخ سيدي الكبير استطاع أن يحول التصوف من قضية شخصية بين العبد وربه إلى ظاهرة سياسية ليس في بلاد شنقيط فحسب، بل في إفريقيا الغربية كلها . كما حاول جمع كلمة الزعماء في مؤتمر تندوجة 1856 لحل الخلافات بينهم وتنسيق الجهود لمواجهة المستعمر الفرنسي .

ومن هذه الأسرة ينحدر أول رئيس لموريتانيا بعد الاستقلال، الراحل المختار ولد داداه، الذي تخرج من أول مدرسة بنظام عصري في بوتلميت سنة 1914 . كما كانت بوتلميت عاصمة لولاية الترارزة قبل أن تتحول عنها الإدارة عام 1969 .

التجديد والاستمرار: من باب إلى “باب2”

اليوم، وفي ظل زعامة الشيخ الفخامة ولد الشيخ سيديا، الذي يمكن وصفه بحق بـ”باب2″، تتجدد خصال هذه الأسرة الطيبة وتستمر مسيرتها العطرة. ففي 12 مارس 2016، احتضنت بوتلميت تجمعا حاشدا لأكثر من ألف شخص من مريدي ومحبي الأسرة، حيث أكد الخليفة العام للأسرة الشيخ إبراهيم ولد الشيخ سيد المختار سير الأسرة على نهج أسلافها في “إعلاء كلمة الله ونشر الخير والسلم”.

لقد تبنى الحاضرون في ذلك التجمع التاريخي “قرار دعم الأسرة اللامشروط لموريتانيا الجديدة، تسير بخطوات واثقة نحو التنمية والرخاء” . وهذا الموقف يعكس الوعي السياسي والاجتماعي العميق الذي تمتاز به هذه الأسرة، والذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التمسك بالقيم والانفتاح على متطلبات العصر.

خاتمة: فخر بوتلميت وأهلها

كم هو جميل أن ينتمي المرء إلى مدينة مثل بوتلميت، تلك المدينة التي يقول عنها العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: “بتلميت بئر مشهورة لأهل الشيخ سيدي، لا يصلها خائف إلا أمن، ولا فقير إلا استغنى، ولا جائع إلا شبع” . وكم هو أعظم أن تحتضن هذه المدينة أسرة مثل أسرة أهل الشيخ سيديا، الذين جمعوا بين العلم والعمل، بين الصلاح والمجد، بين القيادة والتواضع.

ورغم أنني لست من قبيلة هذه الأسرة العريقة، بل أنتمي إلى قبيلة من”الشرق”، إلا أنني أعتز بهذه الأسرة ومثيلاتها في بوتلميت، تلك المدينة التاريخية التي صنعت مجدا لا ينسى. فالشرف لا يكون بالانتماء القبلي فحسب، بل بالانتماء إلى القيم والمبادئ التي تجسدها هذه الأسرة الكريمة.

لقد كانت بوتلميت ولا تزال منارة إشعاع حضاري بارز، وملتقى لفطاحل العلماء، وعباقرة الأدباء، وأساطين المجتمع، والوجهة المفضلة لكبار الشعراء والمثقفين . وهذا كله بفضل الله أولا، ثم بفضل جهود أسرة أهل الشيخ سيديا وأمثالها من الأسر العلمية التي جعلت من بوتلميت نموذجا يحتذى في العلم والصلاح والمجد مع التواضع والإيثار.

فطوبى لهذه الأسرة الكريمة، وطوبى لمدينة بوتلميت التي أنجبتها، وطوبى لموريتانيا التي تحتضنها.

بقلم : محمد سالم المختار 

بواسطة المدير الناشر لموقع انواكشوط 24كوم الطاهر براهيم بلا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى